مقالات طبية

من تراث العراب د.أحمد خالد توفيق الأستاذ بكلية طب طنطا والأديب الذي لن يتكرر

يحكي صديقي أستاذ جراحة العظام عن قريبه المسن المشلول حبيس الفراش منذ أعوام، وكيف أن ابن الرجل طلب رأي أحد أصدقائه من طلبة الشريعة بصدد عمل حجامة لأبيه , فقال له: ربنا ييسر إن شاء الله، وجاء في اليوم التالي إلى البيت حاملاً موسًا وطستًا ، وفي الفراش جثم على صدر العجوز المشلول ليجري عدة جروح قطعية سخية على جانبي رأسه ، بينما العجوز يعوي ويطلق ما استطاع من صرخات استغاثة من حنجرته المشلولة ، بالطبع تدهور أمر الجروح وطلبوا رأي صديقي أستاذ العظام ، قال لي صديقي وهو غير مصدق: إذن في القرن الواحد والعشرين ، ما زال عندنا غير متخصص يمزق عجوزًا مشلولاً بالموس وهو يجثم على صدره، بدعوى أن هذا هو الدين الصحيح.

الحقيقة إن معظم الأطباء لا يسيغون هذه الأنواع من العلاج بحال، ولديهم تحفظات قوية عليها ، لكنهم يحتفظون بآرائهم سرًا نظرًا للغابة الكثيفة من التقديس التي تحيط بها ، من يجادل يهدد بأن يتحول إلى فولتير أو ماركس، بينما لا أحد يرغب في بطولة من هذا النوع ، أكثر من طبيب قال لي همسًا إن مرضاه تدهوروا لما شربوا بول الإبل، وأكثر من واحد قال همسًا إن الحجامة لم تأت بنتيجة.

أصعب شيء في العالم أن تقول ما يستفز الجماهير أو يضايقها ، والشيخ القرضاوي يقول في أحد حواراته إن نفاق العالم للحاكم كريه لكن خطره محدود، بينما الخطر الحقيقي هو نفاق العالم للناس بأن يقول لهم ما يشتهون سماعه ، يمكن للمرء ببعض الجهد أن يفند مزاعم المعالجين بالحمام ، عندما يتعلق الأمر بالحجامة وبول الإبل سوف تلقي أسئلة علمية ، لكنك تنزلق إلى المصيدة التي أعدوها لك: لماذا تريد أن تجرب بينما هذه أمور ثابتة في الطب النبوي ولا جدوى من التجربة ؟ تقول: بس يا جماعة فيقاطعونك: “هل تؤمن بالسنة أم لا ؟.رد!” هل فهمت الورطة التي يقودونك إليها ؟ أنت تؤمن بالسُنة لكنك لا تؤمن أن الحجامة من أركان الدين التي لا يكتمل الإيمان إلا بها.

إن هذه الورطة مصيدة محكمة هي ذات المصيدة التي كانت تبيع صكوك الغفران في القرون الوسطى ، وأنت تعرف أنك لا تملك الثقافة الشرعية الكافية للرد، لكنك بالتأكيد تملك الثقافة الطبية، وهذه الثقافة تقول لك إن هناك خطأ ما ، نحن ننزلق إلى الهاوية بسرعة جنونية وجدت المخرج المنطقي في مقال للمحارب الشجاع د. خالد منتصر على شبكة الإنترنت ، يقول فيه: ” لأن صوت الإجتهاد مغيب فى هذه الأيام فإننا لا نلتفت إلى هذه الآراء الشجاعة ، فمثلاً الشيخ الجليل عبد المنعم النمر فى كتابه العظيم (الاجتهاد) فى صفحتى 38 و 40 يفرق بين السنة الواجب إتباعها والسنة التى لا تثريب على تركها، فيقول إن ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى الزراعة والطب والطعام وما يحبه الرسول وما يكرهه وكيف يمشى ونومه ولبسه إلى غير ذلك من الأمور العادية، كل ذلك من النوع الثانى الذى لا يمنع أحداً من الإجتهاد فيه إذا وجد أنه لم يعد يحقق المصلحة التى أرادها الرسول لتغير الناس والأمكنة ، ونفس المعنى يقوله محمد سليمان الأشقر أستاذ الشريعة بجامعة الكويت ، والقاضى عياض الذى قال فى ترك العمل بالأحاديث الطبية: “ليست فى ذلك محطة ولا نقيصة لأنها أمور إعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل بها”.. باختصار (أنتم أعلم بشئون دنياكم). ثم يقول د. خالد منتصر: ” كيف يعالج دواء أو إجراء جراحى المرض ونقيضه في نفس الوقت ؟!، وكيف تعالج الحجامة السمنة والنحافة، والنزف وإنقطاع الدم الخ ؟”

في موقع إسلام أون لاين – وهو الموقع العقلاني الرصين – نقرأ التالي: ” فلا يصح إطلاق القول بأن الحجامة علاج كامل ونهائي لكل الأمراض ، هى فقط وسيلة من وسائل العلاج يؤخذ بها عند الحاجة ، بل إن تطبيق الحجامة على أيدي غير مختصين يتيح الفرصة لمعارضي الطب النبوي للدعاية لها بشكل سلبي بحيث تظهر على أنها نوع من الدجل والشعوذة. ويمكن للحجامة أن تنقل العديد من أمراض الدم الخطيرة ” في الحقيقة لا أقول هنا إنني ضد الحجامة وأبوال الإبل. أنا ضد الترويج لهما كعلاج قبل عمل دراسة مدققة أمينة بعيدة عن التحيز وتمويل جهات يهمها أن تكون النتيجة إيجابية.

من الصعب أن ترفض علاجًا لمجرد إنه غريب أو (مقرف)، ودليلي على هذا – وليسمح لي ذوق القارئ – أكل الصينيين في الماضي لبثور المصابين بالجدري .. طبعًا كان هذا نوعًا من اللقاح كما عرفنا اليوم .. إسهال مرضى الكوليرا في الهند الذي كان الأصحاء يشربونه .. نحن الآن نعرف أنه يحوي كمية كبيرة من لاقمات البكتريا Bacteriophages التي تلتهم بكتريا الكوليرا الواوية . إذن أنا لا أرفض التداوي ببول الإبل ، لكني كذلك لا أقبله قبل أن تُجرى دراسة مدققة أمينة، ويتم مقارنة من يتعاطون العلاج مع من لا يتعاطون، ويتم فصل وتوصيف المادة التي تشفي الفيروس سي إن كان لها وجود. لكن لا ترفض العلاج قبل التجريب ، ولا تقبله قبل التجريب ، في الحالتين أنت تقع في فخ الانغلاق الفكري والأحكام المسبقة “Prejudices”.

النقطة الأخرى المهمة هي الحياد العلمي هل يمكن أن يُجرى في دولة عربية بحث علمي تكون خلاصته: لم يتبين أن للحجامة دورًا في علاج مرض السكر، أو تبين أن المجموعة التي تعاطت بول الإبل تدهورت ؟! مستحيأنت تجري التجربة لتثبت كم هي ناجحة، والمجلات الطبية الخليجية تعج بأبحاث من هذا القبيل ، الجهات العلمية الأكثر صدقًا تصمت ولا تعلن نتائجها، وإنني لأذكر هوجة الأعشاب التي سادت في التسعينات لعلاج التهاب الكبد سي، وقيل إن جهات بحثية مهمة تجري دراسة مدققة تُعلن في يونيو القادم ، يومها قال لنا د. (حلمي أباظة) أستاذ أمراض الكبد الشهير: “أراهن أن يونيو بتاعهم ده مش جاي أبدًا . !”؛ والحقيقة أن نتائج الدراسة لم تُعلن منذ يونيو 1995 حتى هذه اللحظة فعلاً. لكن النصابين الكبار لا ينتظرون كلمة العلم ها هو ذا بيزنس الحجامة وبيزنس أبوال الإبل يجتاح كل شيء.

كالعادة لا يوجد شيء مجاني هناك كتب عن الحجامة وأفلام فيديو تشرح أساليب الحجامة ، وهناك أجهزة للحجامة المنزلية و ……..و. فتقرأ عن الحجامة أخبارًا مثل أن 38 ولاية في أمريكا تمارس العلاج بالحجامة بشكل رسمي، وأن مايو كلينيك تبنتها، وأن هناك مجلات أمريكية وألمانية صدرت مخصصة لها فقط، وأن الأسرة المالكة في بريطانيا طلبت من فريق طبي سوري معالجة بعض أفرادها من مرض الهيموفليا الوراثي!! ألا تشم رائحة راسبوتين في هذا الخبر ؟ وحتى لو صح فمن قال إن الطب البديل ليس له زبائن في الغرب ؟ إنهم يثقون في أي شيء يأتي من الشرق باعتباره منبع الحكمة ، دعك من أن الحجامة فعلاً لها تطبيقات مهمة في بعض فروع الطب، لكنها ليست علاجًا لكل شيء كما يزعم هؤلاء، وبالتأكيد هي الطريقة المثلى لقتل مريض الهيموفيليا .

من أهم الأخطار استقطاب عدد من الأطباء بل أساتذة الطب الذي لا يهتمون بالطريقة العلمية ، لكنهم يعملون كفقهاء السلطان لتحليل هذه الأنماط غير العلمية من العلاج، وعندما يقول طبيب إن مجلة أمريكية تصدر للحجامة فأنت تجد صعوبة في التكذيب ، لكني جربت البحث المضني في شبكة الإنترنت والمجلات الطبية الكبرى عن رأي الغرب في الحجامة، فلم أجد لها ذكرًا إلا في موسوعة ويكيبيديا ؛ الموسوعة نشرت المقال بعنوان “Hejama” لأن هناك من أرسله لها ، وصنفته ضمن المقالات الضعيفة التي تحتاج إلى أسانيد ومراجع !.

إذن أين مايو كلينيك وأين المجلات المخصصة للحجامة و ..و … ؟

ينقسم هؤلاء الأطباء المحللين إلى المنتفعين وحسني النية والمرضى النفسيين لكنهم جميعا تكاتفوا لمحاربة عقل هذه الأمة. النوع الأخير معروف جدًا . تعرفه من تعصبه وضيق خلقه والنظرات المجنونة التي يطلقها من وراء نظارته ، واللعاب الذي يتطاير من فمه عندما يناقشه أحد. هذا مزيج عبقري من النصب والجنون، وأفضل أنواع النصب هو ما جاء من مجنون لأنه يشع طاقة نفسية هائلة تقنع العامة. من بين هؤلاء الأطباء الذين يلقون الكلام على عواهنه هذا الطبيب الذي التقت به جريدة معارضة مهمة ، وأفردت له صفحتين يلقي فيهما قنبلته: “الإيدز لا وجود له” . أمريكا هي التي اخترعت هذه الأكذوبة لتنشر الشذوذ الجنسي ! ومنهم من يقابل كبار الصحفيين ليؤكد أنه لا وجود للفيروس سي. هذه مؤامرة من شركات الأدوية، لكنه مستعد ليغير كلامه على الفور ليروج لأعشاب تعالج ذات الداء الذي لا وجود له. هل تلوم العامة إذا صدقوا هذا بعد ما قاله طبيب ؟ هؤلاء القوم جميعًا هم أعداء الإسلام وأخطر عليه ألف مرة من جيوش المغول. لا يبالون بحيرة الأجيال القادمة ، ولا التضليل والشك، ولا يهمهم أن يقول أحد في نفسه: “لقد جربت الطب النبوي ففشل”

يفضلون أن يقول الناس هذا ما دامت حساباتهم في المصارف تتكوم. وبينما العالم ينهض ويمشي حثيثًا ويعدو ويثب، يجلسون جوار جدار ويقولون في عناد كالأطفال: وإيه يعني ؟.. نحن كنا نعرف هذه الأمور منذ 1400 عام. أمس صارت ماليزيا أفضل منا واليوم صارت إيران أفضل منا. غدا تصير الكونغو أفضل منا وسندعو الله أن نلحق بها، ونقيم المؤتمرات لفهم كيف حدث هذا!

اتقوا الله في هذه الأمة قليلا.

د.محمد منصور

دكتور محمد منصور طبيب الباطنة والكلى مستشفيات جامعة ليستر - بريطانيا مؤسس قناة و موقع الدكتور

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى