هؤلاء النصابون الكبار وابتكاراتهم العبقرية من تراث العراب د.أحمد خالد توفيق
هؤلاء النصابون الكبار وابتكاراتهم العبقرية.
أخيرًا شاهدت حلقات البرنامج الأمريكي (هراء) الذي أرسل لي صديقي الكويتي حلقات موسم كامل منه. (هراء) أو (فضلات ثيران) هي الترجمة المهذبة لاسم البرنامج البذيء ، والذي يقدمه اثنان من المشعوذين الظرفاء سليطي اللسان هما (بن) و(ستيلر) اللذان قررا أن يكرسا حياتهما لمحاربة الخرافة والسخف والنصب ، نفس الدور الذي لعبه منذ مائة عام مشعوذ آخر هو (هوديني) على أساس إن (حبل على حبل مايبرمش) كما يقولون عندنا.
الحلقة التي استلفتت نظري تدور عن الطب البديل. يمكنني اليوم أن استعمل الكلمة بحرية بعد ما فضل د. (محمد المخزنجي) استعمال لفظة (الطب المكمل). منذ البداية يقول مقدم الحلقة في استمتاع: “نحن نبحث عن الهراء ، وما دمنا نتكلم عن الطب البديل فالمشكلة هي: من أين نبدأ ؟” ويأخذك البرنامج في رحلة ممتعة بين هذا النصاب الذي يجوب الولايات المتحدة بشاحنة ، ويقوم بتدليك القدمين بجهاز يحدث ذبذبة معينة تدغدغ القدم ، ويتقاضى 55 دولارًا في الساعة يطلقون على هذا النوع من العلاج اسم “reflexology” ويقضي بأن كل أعضاء الجسم لها جزء يمثلها في القدم ، ثم يأخذك البرنامج إلى المعالجين بالمغناطيس ، هناك مغناطيس لكل عضو من أعضاء جسدك ، والفكرة هي تصحيح مغناطيسية جسمك المختلة ، يؤكد الدكتور المتحمس لهذه الطريقة “وكلهم يحملون لقب دكتور على فكرة” -أن رسم المخ الكهربي أظهر انخفاض معدلات التوتر لدى من عولجوا بهذه الطريقة هنا يذكرنا البرنامج بأن رسام المخ الكهربي لا دور له في قياس التوتر ويعلق أحد أساتذة الأمراض العصبية أن أجسامنا لا تعمل بهذه الكيفية ولا دور للمغناطيس فيها ، هناك جو علمي مهيب حول الموضوع لكن الحقيقة هي أنه مجرد هراء.
بعد هذا نرى الـ “Chiropractor” وهو نصاب آخر يعالج بفلسفة تقوم على أن كل الأمراض تنجم عن ارتخاء الفقرات . لهذا يمارس هذه العملية التي هي أقرب للتدليك العنيف جدًا. يعترف الرجل الذي يزعم أنه حاصل على الدكتوراه بأنه أجرى هذه العملية العنيفة على طفل عمره شهر واحد ليعالجه من الإكزيما!هكذا ينتقل البرنامج من هراء لآخر، وفي النهاية يلتقي بعالم كتب عن هؤلاء النصابين كتابًا اسمه (الفودوو العلمي). يقول هذا العالم إن الأمر كله يعتمد على الإيحاء ورغبة الشفاء لدى المريض ، ثم يصف كل هذا الذي يحدث بعبارة قاسية هي : “إنه مجرد استمناء فكري !”.نترك هذا البرنامج الشائق ونثب إلى مصر التي تفشى فيها سرطان الطب البديل.
قد يطيب للنفس أن تتأسى بحقيقة أن هذا النصب يجري في أكثر دول العالم تقدمًا، لكننا نقول إن هناك فارقين مهمين بيننا وبينهم الفارق الأول هو أن طريقتهم العلمية صارمة وثابتة ، يستعملون المقاييس التي وضعها كانط وديكارت وليسوا على استعداد للتخلي عنها ، لن تتكلم مجلة طبية محترمة عن العلاج بالمغناطيس ، ولو تكلمت لقامت بإجراء دراسة مقارنة مع مجموعة ضابطة تخضعها لعلم الإحصاء الذي لا يكذب ، هكذا يظل الخط واضحًا بين ما هو علم وما هو علم زائف ، بينما عندنا يطرد العلم الزائف العلم الحقيقي، ولم يعد من الغريب أن يطلب منك المريض ألا تكتب له علاج السكر لأن معالجه نصحه بعدم تعاطيه! هناك أطباء يبيعون الأعشاب في عياداتهم أو خلائط غريبة من مساحيق ركبوها بأنفسهم. عرفت طبيبًا ظل يعالج سرطان المستقيم بأن يسكب فوقه العسل الأبيض يوميًا!!! ، وبعد ما مات المريض كان رأيه هو أن العسل (مش قطفة أولى). الفارق الثاني هو أنهم لم يربطوا هذا النوع من الطب بالدين ، وبهذا لم يضعوا درعًا واقيًا حول إدعاءاتهم يصعب أن تخترقه. عندما يبتكر طبيب مصري نوعًا من قطرات العين مستخلصًا من العرق، ويزعم أنه يعالج المياه البيضاء لأن قميص سيدنا يوسف أعاد البصر لأبيه ، فإنه قد ضمن رواج المنتج أولاً ، ووضع حول نفسه سياجًا منيعًا ثانيًا من يخترق هذا السياج ليتشكك، يبدو أمام الناس كأنه يعارض صحيح الدين ، برغم أن ما حدث من عودة بصر الكفيف معجزة إلهية ، وإنكار قدرة العرق على شفاء المياه البيضاء لا علاقة له بالدين. برغم الطابع المحلي القوي للعلم البديل ، فإن رأيي الخاص هو أن ما حدث في الأعوام الأخيرة نصر آخر للعولمة. ربما تم هذا شعوريًا أو لا شعوريًا ، لكن هناك من الأذكياء من درس تجارب نصابي الغرب وعرف كيف يصنع قرشين منها.
هكذا بدأت ظواهر المعالجين الروحيين تتسرب لنا ، تسرب لنا الكثير من الطب البديل. برامج مريم نور التي تمزج الشامانية بالمانوية باليوجا في خليط واحد خلاب. ظاهرة الداعية التلفزيوني الوسيم الأنيق. أليست تكرارًا لظاهرة الواعظ النجم البروتستانتي في الغرب ؟ ، بينما تراجعت مكانة رجل الدين العالم الأزهري الذي يعرف ما يتكلم عنه حقًا ، حتى الطريقة (الكارنيجية) في الوصول للثروة والنجاح في الحياة وجدت من يتلقفها عندنا. ثمة سمة عامة تجمع هؤلاء جميعًا(من الصعب أن تكون مقنعًا ما لم تكن مقتنعًا). لهذا هم يجمعون بين الاقتناع والإقناع ، فلا أعتقد أن أحدهم ينفرد بنفسه خلف الستار ليضحك قليلاً قبل أن يعود لمواجهة الجمهور، بالنسبة لهم ما يقومون به جم الفائدة. حقيقة تتأكد لدى كل منهم وهو يجتاز مدخل البنك ليصرف الشيك الخامس في شهر واحد. هل هناك شيء أكثر فائدة ؟هم شرسون جدًا في الدفاع عما يزعمون، وهذا قد يصل درجة التوحش أحيانًا. هذا طبيعي لأنك في الواقع تحاربهم في صنعتهم ورزقهم الذي جعلهم نجومًا وحقق لهم كل هذه الأرباح ؛ جرب أن تطلق شائعات عن بائع الفول الذي يقف بعربته عند مدخل شارعكم ، وسوف يمزقك أو يدلق قدر الفول فوق رأس. وكما قال لي سائق سيارة تاكسي ذات مرة: “آل يا واخد قوتي يا ناوي على موتي”!
طيف هذه الألاعيب واسع ممتد يبدأ بعلاج التهاب فيرس سي ببول الآبل، وينتهي بنشاطات راقية متحذلقة مثل البرمجة اللغوية العصبية. إنها دائرة شيطانية أخرى تدور كالتالي: الناس تريد معلومات أكثر عن هذه الألعاب الجديدة ، الفضائيات تقدم للناس ما يريدون ، يولد المزيد من النجوم الذين يصير لهم أتباع أكثر هؤلاء الأتباع يطلبون المزيد من الألعاب الجديدة.