شبهات عن الطب النبوي تحتاج إلى تحقيق – الفصل الخامس من كتاب “الطب النبوي – الحقيقة والإدعاء”
محتوى المقال
(هذا هو الفصل الخامس من كتاب: الطب النبوي – الحقيقة والإدعاء – لمؤلفه الدكتور عصام منصور – ويعرض هذا الفصل من كتاب الطب النبوي – الحقيقة والادعاء عدداً من الشبهات عن الطب النبوي تحتاج إلى تحقيق مثل موضوع بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ويعرض أيضاً للإجابة على عدد من الأسئلة مثل: هل كل كلام النبي وحي؟ وهل يمكن أن يخطئ النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا؟)
انتقل للفصل الرابع من هنا: ((أقسام ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الطبية))
شبهات عن الطب النبوي تحتاج إلى تحقيق
- أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث في أمور طبية والله تعالى يقول ” وما ينطق عن الهوى ” سورة النجم. فالظاهر من الآية أن كل ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم وحي.
- أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالحجامة واحتجم وامتدح وسائل أخرى للعلاج كانت مستخدمة وقتها.
معنى “وما ينطق عن الهوى” – هل كل كلام النبي وحي؟
أما فيما يخص قوله تعالى ” وما ينطق عن الهوى , إن هو إلا وحي يوحى ” فبالرجوع إلى أمهات كتب التفسير وجدنا أن القرآن يتحدث في هاتين الآيتين عن القرآن وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالقرآن عن الهوى .
ونمثل لذلك بقول القرطبي في ” الجامع لأحكام القرآن ” إذ يقول (قوله تعالى: “وما ينطق عن الهوى” قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه “إن هو إلا وحي يوحى” إليه. وقيل: “عن الهوى” أي بالهوى؛ قال أبو عبيدة؛ كقوله تعالى: “فاسأل به خبيرا” [الفرقان: 59] أي فاسأل عنه , النحاس: قول قتادة أولى، وتكون “عن” على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: “إن هو إلا وحي يوحى “.
ويقول الطبري المتوفى سنة 310 هـ في تفسير سورة النجم :
يقول تعالى ذكره: وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه {إن هو إلا وحي يوحى} يقول: ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه.
وقد عاتبه الله تعالى في أكثر من موقف, وعتابه سبحانه له في القرآن دليل بأن الصواب كان في غير ما صنع, فيروي القرطبي في تفسيره قال :
( قال مالك: إن هشام بن عروة حدثه عن عروة، أنه قال: نزلت “عبس وتولى” في ابن أم مكتوم؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: يا فلان، هل ترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا والدمي ما أرى بما تقول بأسا ؛ فأنزل الله: “عبس وتولى”) .
كما عاتبه الله عندما أذن للمعذرين من الأعراب يوم تبوك بالتخلف عن الغزوة, ولكنه سبحانه قبل أن يعاتبه أعلنه بعفوه ؛ فقال في سورة التوبة ” عفا الله عنك لم أذنت لهم “
بشرية النبي صلى الله عليه وسلم
وهنا يجب الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إن جاز عليه مخالفة الأصوب في بعض الأمورالمعدودة كاجتهاد بشري منه, إلا أنه صلى الله عليه وسلم معصوم من المعصية فلا تجوز في حقه, لدرجة أن الله عصمه منها حتى قبل البعثة ؛ ففي السيرة لابن هشام ” وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما ذكر لي – يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته ، أنه قال:
لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان ، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة؛ فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه، لكمة وجيعة، ثم قال : شد عليك إزارك؛ قال : فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي.
ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه بشر يجوز في حقه أن يخدع بكلام ظاهره الحق وهو ليس كذلك, وبناءا على هذا قد يخطيء في الحكم على الأمور الدنيوية لغياب الحقيقة أو بعضها عنه أو إخفائها بقصد.
فقد روى القرطبي في تفسيره قال : (وقد روى الأئمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة” وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة) انتهى قول القرطبي.
وكذلك ورد أن الصحابة رضوان الله عليهم قد راجعوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض آرائه, بعد أن استوثقوا منه أنها ليست وحيا ولكنه رأي بشري يمكن أن يكون عند غيره رأي أصلح منه, كما ذكر ابن هشام (المتوفى 213هـ ) في كتابه ” السيرة النبوية ” عن أمور حدثت يوم بدر قال :
” قال ابن إسحاق : فحُدثت عن رجال من بني سلمة ، أنهم ذكروا : أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة،
فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القُلَب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي, فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، و بنى حوضا على القَليب الذي نزل عليه، فمُلىء ماء ،ثم قذفوا فيه الآنية”.
قول الإمام النووي في حديث تأبير النخل وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”
ففي كتاب الفضائل من صحيح مسلم بشرح النووي يضع الإمام النووي عنوانا هو :” باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا، على سبيل الرأي.” ثم يقول تحت هذا العنوان :
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي و أبو كامل الجحدري. وتقاربا في اللفظ. وهذا حديث قتيبة. قالا: حدثنا أبو عوانة عن سماك، عن موسى بن طلحة، عن أبيه. قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل. فقال: “ما يصنع هؤلاء؟” فقالوا: يلقحونه. يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أظن يغني ذلك شيئا” قال: فأخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: “إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظنا. فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به. فإني لن أكذب على الله عز وجل “.
حدثنا عبد الله بن الرومي اليمامي و عباس بن عبد العظيم العنبري و أحمد بن جعفر المعقري. قالوا: حدثنا النضر بن محمد. حدثنا عكرمة (وهو ابن عمار). حدثنا أبو النجاشي. حدثني رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وهم يأبرون النخل. يقولون يلقحون النخل.
فقال: “ما تصنعون؟” قالوا: كنا نصنعه. قال: “لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا” فتركوه. فنفضت أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له فقال: “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر “” قال عكرمة: أو نحو هذا. قال المعقري: فنفضت. ولم يشك.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة و عمرو الناقد. كلاهما عن الأسود بن عامر. قال أبو بكر: حدثنا أسود بن عامر. حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وعن ثابت. عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون. فقال: “لو لم تفعلوا لصلح” قال: فخرج شيصا. فمر بهم فقال: “ما لنخلكم؟” قالوا: قلت كذا وكذا. قال “أنتم أعلم بأمر دنياكم “.
فيه حديث تأبير النخل وأنه صلى الله عليه وسلم قال: “ما أظن يغني ذلك شيئاً فخرج شيصاً فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به” وفي رواية: “إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر” وفي رواية: “أنتم أعلم بأمر دنياكم” قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم من رأيي أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع.
فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس تأبير النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله، مع أن لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى لقوله في آخر الحديث قال عكرمة أو نحو هذا فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم محققاً.
قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك وسببه تعلق هممهم بالاَخرة ومعارفها والله أعلم ( إلى هنا انتهى كلام النووي ) .
فرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا أشار إلى ترك ثقافة شائعة وسلوك متوارث عند زراع النخل وهي التأبير , فإنه أقرب إلى العقل أن نتصور أن هذا تشريع نبوي , لأنه أبطل أمرا كان معروفا ومعمولا به في الزراعة , وكان من الممكن أن يخرج علينا من يقول ” الزراعة النبوية ” لأن النبي استحدث طريقة جديدة بحديث صحيح , ورغم ذلك هي نفس الحادثة ونفس الحديث الذي رجع فيه النبي عن رأيه لما ثبت أنه أضر بالزراعة وقال ”
“إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر
فإذا كان هذا حدث في أمر استحدثه النبي بحديث صحيح , فكيف يدعي أحد أن الكلام عن الحجامة والكي طب نبوي رغم أنه كان أمرا معروفاً وممارساً ولم يأت النبي فيه بجديد , بل من باب أولى أن يلحق هذا بما حدث في تأبير النخل خاصة إذا ثبت أن العلم الصحيح يخالف ذلك.
فالحديث الصحيح بشأن تأبير النخل قد وضع أصلا عظيما تحاكم إليه الأمور الدنيوية التي تحدث فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن هذه الحادثة لم تقع لأصبح الناس في حرج شديد فيما يخص أمور الدنيا، ولكن الله شاء أن يضع معلماً للناس يقفوا عنده ويرجعوا إليه في مثل هذا الشأن، فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم: “وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ، فَإِنّمَا أَنَا بَشَر”.
والملاحظ هنا أيضاً لفظة ((أمرتكم)) ففيها أمر ولكنه قابل للمراجعة بأدب يليق مع سيد البشر، فقد أمرهم صلى الله عليه وسلم كما سبق بالنزول حيث نزلوا يوم بدر، فنزلوا حيث أمر ثم راجعه الحباب بن منذر، فأخذ برأيه وانتقل عن المكان الذي أمر به أولاً إلى المكان الذي أشار به الحباب.
وفي ” مجمع الزوائد ” للهيثمي يذكر لنا في كتاب العلم , باب الإجتهاد حديثاً يعطي نفس المعني ويصل بنا إلى ذات النتيجة فيقول: وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في النخل بالمدينة فجعل الناس يقولون: فيها وسق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “فيها كذا وكذا” فقال : صدق الله ورسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إنما أنا بشر مثلكم فما حدثتكم عن الله فهو حق وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ “رواه البزار وإسناده حسن .
ففي هذا الحديث مر الصحابة ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم على نخل فيه بلح, فخمن أحدهم قدر ما تحمله النخل أو النخلة من بلح, فقال فيها وسق, أي ما مقداره وسق من بلح, فحدد النبي مقدارا آخر غير الوسق لم يذكره الحديث على وجه الدقة ربما نسيانا من ابن عباس رضي الله عنهما, فعبر عن ذلك بقوله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “فيها كذا وكذا”).
هنا يتوقف تخمين الصحابة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم الأمر بما يوحى إليه فيقول قائلهم ” صدق الله ورسوله “, فيضع النبي صلى الله عليه وسلم لهم الميزان الصحيح عندما يخبرهم أن الأمر ليس كذلك وأن هذا ليس وحياً لأنه ليس ناقلا في هذا الأمر عن الله, وإنما هو تخمين كتخمينهم يصح أو يخطأ مثلهم تماما, فقال صلى الله عليه وسلم ” إنما أنا بشر مثلكم فما حدثتكم عن الله فهو حق وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ ” .
هل كل كلام النبي وحي؟ وهل كل أفعاله صلى الله الله عليه وسلم وحي؟
ويقول ابن حجر في فتح الباري وهو يتحدث عن غزوة الأحزاب” وبين ابن إسحاق في المغازي صفة نزولهم قال: نزلت قريش بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة، ونزل عيينة في غطفان ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أحد بباب نعمان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، والخندق بينه وبين القوم، وجعل النساء والذراري في الآطام،
قال: وتوجه حيي بن أخطب إلى بني قريظة فلم يزل بهم حتى غدروا كما سيأتي بيانه في الباب الآتي، وبلغ المسلمين غدرهم فاشتد بهم البلاء، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حصن ومن معه ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا، فمنعه من ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وقالا كنا نحن وهم على الشرك لا يطمعون منا في شيء من ذلك، فكيف نفعله بعد أن أكرمنا الله عز وجل بالإسلام وأعزنا بك؟ نعطيهم أموالنا، ما لنا بهذا من حاجة، ولا نعطيهم إلا السيف ” ( انتهى كلام ابن حجر).
وهنا أقول لو كان كل أمر يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وحياً حتى في أمور الحرب لما جاز لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة أن يمنعا النبي من ذلك كما ذكر ابن حجر نقلاً عن ابن اسحاق في المغازي.
وفي تفصيل أكثر لهذا الخبر يوضح الأمور وكيف كان يتعامل الصحابة رضوان الله عليهم مع كلام النبي في شئون الدنيا , ننقل نص ما قال القرطبي في تفسير سورة الأحزاب حيث قال” فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلان قريشا ويرجعا بقومهما عنهم.
وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ قال: (بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) فقال له سعد بن معاذ:
يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: أنتم وذاك. وقال لعيينة والحارث: انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف , وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها (انتهى كلام القرطبي).
وبإرجاع النظر إلى هذا النص نجد أن السعدين رضى الله عنهما فكرا في كلام النبي بشأن إعطاء غطفان ثمار المدينة إنما هو واحد من ثلاثة:
إما أن يكون وحياً, أى أن الله أمره به, فهنا السمع والطاعة بلا تردد, ولا يكفي أن يقوله النبي ليعتبراه وحيا ولهذا سألاه هل هو وحي أم لا.
والإحتمال الثاني أن يكون رأياً بشرياً يحبه النبي صلى الله عليه وسلم , وفي هذه الحالة سينفذانه إرضاءا للنبي صلى الله عليه وسلم, ولهذا قالا ” هذا أمر تحبه فنصنعه لك “.
والأحتمال الثالث أن يكون اجتهادا من النبي ليدفع عنهم ما يرى مما هم فيه من شدة وهو معنى قولهما ” أو أمر تصنعه لنا ” فلما علما أنه الثالث رفضاه ولم يقبلا أن يعطوا غطفان إلا السيف.
واللافت للنظر هنا قول الراوي ” فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: أنتم وذاك. وقال لعيينة والحارث: انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف” أي أن مراجعة سعد وسعد للنبي ورفضهما رأيه والإتيان برأي آخر أعجب النبي صلى الله عليه وسلم و سره, فصرف المفاوضين من غطفان بإعلان فشل المفاوضات وحتمية القتال بناءا على رأي السعدين.
وفي حديث ابن كثير عن غزوة أحد في تفسير ” آل عمران ” يقول ” فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الجمعة فلما فرغ منها استشار الناس: ” أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة “؟ فأشار عبد اللّه بن أُبي بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروح إليهم.
فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلبس لامته وخرج عليهم وقد ندم بعضهم وقالوا لعلنا استكرهنا رسول الله صلى اللّه عليه وسلم, فقالوا : يا رسول الله إن شئت أن نمكث , فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ” ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم اللّه له”.
والشاهد هنا أن بعض من أشار بالخروج ندم لأن الظاهر أن رأي النبي كان غير ذلك, ولكن النبي نزل على رأيهم ورفض أن يأخذ برأيه هو وصمم على إتمام ما اتفقوا عليه عن طريق الشورى التي خالفت رأيه.
والجميل هنا والذي يجب أن نقف عنده كثيرا أن المسلمين خرجوا إلى العدو بناءا على ذلك, ثم أصابهم القرح كما هو معلوم, وبدل أن يأمر الله الصحابة أن يسمعوا ويطيعوا للنبي في كل أمر دنيوي يخص شئون الحرب والزرع والطب وغيرها, إذا بالله عز وجل بعد المعركة يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يداوم على هذا النهج من مشاورة أصحابه في أمور الدنيا فيقول له “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” . (آل عمران – 159)
هل يمكن أن يخطئ النبي صلى الله عليه وسلم عن غير قصد؟
وفي كتابه ” الدر المنثور في التفسير بالمأثور ” يقول السيوطي (وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار).
وهكذا ينبه النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الأقضيات بين الناس يقضي بما يصل إليه اجتهاده من سماع أطراف القضية, والذي قد يخالف الحقيقة لاختلاف الناس في القدرة على عرض قضيتهم, وبالتالي بتلبيس الباطل ثوب الحق حتى يلتبس الأمر على السامع, حتى وإن كان السامع هو النبي نفسه فيقضي بحق شخص إلى شخص آخر,
ولو كان كل كلامه صلى الله عليه وحياً لكان هذا القضاء وحياً, ولما كان من الممكن أن يقضي لأحد بحق أحد, وهذا خلاف ما يقوله النبي هنا عن نفسه, فعلم أنه يقضي باجتهاد بشري في توصيف القضية قد يصيب وقد يجانبه الصواب.
وفي السيرة النبوية الشريفة مثال واضح لذلك نزل فيه قرآن، حدث هذا عندما قام ثلاثة إخوة هم بشر وبشير ومبشر بسرقة رفاعة بن زيد، فجاء قتادة بن النعمان ابن أخي رفاعة يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء سرقوا عمه.
فجاء أسير بن عروة ابن عم الثلاثة يشكو للنبي رفاعة وقتادة بأنهم اتهموا أبناء عمه بالسرقة ظلماً، وظل يدافع عنهم حتى صدقه النبي صلى الله عليه وسلم وغضب على قتادة ورفاعة، لولا أن الله أنزل قرآناً يبين فيه ما حدث، ففي تفسير قوله تعالى: ((إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) (النساء – 105) يقول القرطبي:
“في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه ، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم ، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة إخوة : بشر وبشير ومبشر ، وأسير بن عروة ابن عم لهم ؛ نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعاً له وطعاماً ، فعثر على ذلك . وقيل إن السارق بشير وحده ، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعاً ؛ قيل : كان الدرع في جراب فيه دقيق ، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره.
فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة ؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة.
فأنزل الله تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم الآية . وأنزل الله تعالى : ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل . وقيل : زيد بن السمين وقيل : رجل من الأنصار . فلما أنزل الله ما أنزل ، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة”. انتهى كلام القرطبي.
و يقول الشيرازي( المتوفى 476 هـ ) في كتاب اللمع في أصول فقه الشافعية وهو يتحدث عن حجية الإجماع فيقصره على الأمور الشرعية ويستثني منه ما كان من شئون الدنيا :
” وأما أمور الدنيا كتجيهز الجيوش وتدبير الحروب والعمارة والزراعة وغيرها من مصالح الدنيا فالإجماع ليس بحجة فيها, لأن الإجماع فيها ليس بأكثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أن قوله إنما هو حجة في أمور الشرع دون مصالح الدنيا ولهذا روي ( أنه صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً فقيل له إنه ليس برأي فتركه) ” انتهى كلام الشيرازي .
(انتهى الفصل الخامس: شبهات عن الطب النبوي تحتاج إلى تحقيق – الأدلة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم – والإجابة على سؤال : هل يمكن أن يخطئ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من أمور الدنيا)
انتقل للفصل السادس: ((رأي الدكتور محمد سليمان الأشقر في الطب النبوي وأقوال العلماء في إمكانية خطأ النبي صلى الله عليه وسلم))